الكاهن وإتمام الخدم الإلهيّة
إنّ إتمام الكاهن للذبيحة الإلهيّة، لا يتمّ فقط على مذبح الكنيسة، إنّما الكاهن الحقيقيّ يجعل من نفسه أوّلاً مذبحًا نقيًا لبهائها. لكن هذه النفس لا تصير مذبحًا حيًّا ما لم تتحوّل حياة الكاهن كلّها إلى ذبيحة حيّة. فما يطلبه الله من الكاهن الحقيقيّ، الّذي يبتغي عيش هذا السرّ العظيم في تمام ملئه، أن لا يكون متمّمًا لواجب، إنّما مشتركًا ومساهمًا في سرّ إلهيّ، يرفعه عن حقّ إلى المكان الّذي تهدف الخدمة أن تقودنا إليه.
فالاحتفال بالأسرار الإلهيّة، وخاصّة سرّ الشكر، يتطلّب أمرين من الكاهن: أوّلاً، إيمانًا حيًا بأنّه يقف أمام الثالوث القدّوس الحيّ، الّذي ينظر إليه ويستمع إلى صلواته وهو مستعدّ دائمًا لتحقيق كلّ ما يطلبه لنفسه ولشعب الله. ثانيًا، نقاوة كبيرة من الكاهن، قلبًا مشتعلاً بالمحبّة الإلهيّة بنعمة الروح القدس. هذه النقاوة، يسعى الكاهن لإقتنائها عبر استعداده الذاتي، وذلك بالصلاة والصوم وفحص أفكاره جيّدًا. يذكر كتاب صلوات الخدم اليوميّة – السواعي، وصيّة القدّيس باسيليوس الكبير للكاهن في استعداده وإتمامه للذبيحة الإلهيّة: "أيّها الكاهن كن ذا حرص واهتمام في أن تكون عاملاً غير مخذول قاطعًا كلمة الحقّ باستقامة. إياك أن تقف للذبيحة وفي نفسك حقد على أحد لئلا تجعل المعزّي يفرّ مبتعدًا عنك.
لا تخاصم أحدًا يوم الذبيحة ولا تحاكمه بل واظب على الصلاة والقراءة في الكنيسة حتّى الساعة الّتي يجب أن تقيم فيها خدمة الأسرار الإلهيّة.
وكذلك قف بورع وخشوع وقلبك نقيّ أمام المذبح المقدّس ولا تلتفت يمنة أو يسرة. بل قف برعدة وخوف أمام الملك السماويّ. لا تسرع في صلاتك أو تختصرها من أجل خدمة عالميّة. كن متمّمًا للقوانين الشريفة. لا تخدم مع من تمنعك هذه القوانين عن الخدمة معهم. أنظر أمام مَن أنت واقف حين تخدم الأسرار. وانظر إلى مَن تناولها. لا تنسَ وصيّة السيّد والرسل القدّيسين القائلة لا تعطوا الأقداس للكلاب ولا تطرحوا جواهركم أمام الخنازير. إحذر من أن تسلّم ابن الله إلى الأيدي الّتي لا تستحقّه. في تلك الساعة لا تستحِ من عظماء الأرض ولا ممن يلبسون التاج. أمّا المستحقّون فناولهم مجّانًا كما أخذت أنت ذلك مجّانًا ... فإنّ أنت حفظتَ هذه الوصايا وما يماثلها خلّصت نفسك وسامعيك".
بروح هذه الوصيّة الموجّهة للكاهن، تكلّم العديد من آباء الكنيسة ولاهوتيّيها. القدّيس الذهبيّ الفم يتكلّم على الكاهن، الّذي "يستدعي الروح القدس، ويقيم الذبيحة الرهيبة، ويأخذ بين يديه سيّد الخليقة المطلق"، بأن كم من النقاوة والتقوى ينبغي أن يكون عليه، كم ينبغي أن تكون مقدّسة تلك الأيدي الّتي تتمّم تلك الأسرار، كم ينبغي أن يكون مقدّسًا اللسان الّذي ينطق بتلك الكلمات. وأمّا النفس الّتي اقتبلت هذا المقدار من نعمة الروح القدس وتحيط بها الملائكة من كلّ جهة أثناء الخدمة، ألا يجب أن تكون أنقى وأقدس من كلّ نفس أخرى .
القدّيس ثيوغنوسطس يركّز على أن يكون الكاهن نقيًّا من كلّ الأهواء، خاصّة عدم العفّة والحقد، أن ينظر إلى نفسه على أنّه تراب ورماد (تك27:18)، وأن يقدّم الذبيحة قبل كلّ شيء لأجل خطاياه وحينها، إذا وجدت فيه خطيئة بسبب ضعفه تبدّدها النار الإلهيّة .
إنّ الكاهن في استعداده الشخصيّ قبل ممارسة الليتورجيا أو الخدم الأخرى الإلهيّة يتذكّر دائمًا قول الربّ على لسان نبيّه: "ملعون من يعمل عمل الربّ بتوان" (إر10:48). القدّيس يوحنّا كرونشتادت، أيضًا بروح وصيّة القدّيس باسيليوس يتكلّم معتبرًا أنّ الكاهن الّذي يعمل عمل الربّ لأجل شعب الله، "يصلّي، يسبّح ويقيم خدم الكنيسة الإلهيّة بانتباه وتكريس حقيقيّ ووعي".
لهذا لا يمكنه أن يؤدّيه "بتكاسل وإهمال وسرعة مع اختصارات راغبًا أن ينهي العمل المقدّس بسرعة لكي يسرع وراء أمور باطلة عالميّة"، وإنّما عليه أن "يقرأ بهدوء وحرارة مع إيمان ووقار وخوف الله". هكذا الكاهن في كلّ خدمة إلهيّة يؤدّيها وفي كلّ سرّ يتمّمه هو نفسه ينمو بالروح وينال مع أولئك الّذين يتمّم لهم السرّ عطايا الروح القدس.
ويشدّد قدّيسنا على أهمّيّة أن يعي الكاهن حضور الله الحيّ أمامه ومعه في هذا السرّ الإلهيّ، "حين تحتفل بالخدم الإلهيّة، فكّر جيّدًا أمام من أنت واقف، مع من أنت تتكلّم، لمن ترتل، كن كلّيًّا في الله، إنتمِ إليه وحده، صلِّ من كلّ قلبك، رتّل من كلّ قلبك، أقم الذبيحة الإلهيّة لأخيك كما لنفسك" . لهذا فالكاهن الّذي يقيم الذبيحة الإلهيّة دون أن يكون ضميره ملوّثًا بأيّة خطيئة أو مبكّتًا له لأيّ أمر، " فهو لا ينال فقط مغفرة الخطايا، لكن أيضًا كلّ الأشياء الّتي يصلّي لأجلها والّتي هي لمنفعته .
بولس الرسول، في الرسالة إلى العبرانيّين، يتكلّم على أهمّيّة وعي الكاهن لضعفاته وبأنّه يقرّب الذبيحة عن الشعب وعن نفسه، "لأنّ كلّ رئيس كهنة مأخوذ من الناس يُقام لأجل الناس في ما لله لكي يُقدّم قرابين وذبائح عن الخطايا، قادرًا أن يترفّق بالجهال والضالّين إذ هو أيضًا محاط بالضعف. ولهذا الضعف يلتزم أنّه كما يقدّم عن الخطايا لأجل الشعب هكذا أيضًا لأجل نفسه" (عبر1:5-3).
بطريرك القسطنطينيّة كالينيكوس، في إرشاداته للكاهن في كيفيّة الإحتفال بالليتورجيا الإلهيّة، يشدّد أيضًا على بُعدها العقائديّ وعلى أهميّتها بالنسبة إلى الكنيسة ككلّ، يمكن اختصار هذه الإرشادات في هذه النقاط الأربعة :
- إنّ الكاهن الّذي يشترك عن استحقاق في هذا السرّ، لا ينال فقط مغفرة الخطايا وإنّما أيضًا يتقدّس بالنعمة ويصير جسدًا واحدًا ودمًا واحدًا مع المسيح.
- على الكاهن أن يذكر دناءته، لاشيئيّته وفقره ليعي جيّدًا أيّ كنز يقدّم إليه. لهذا يقترب من هذا السرّ بنقاوة وتواضع عالمًا ضعفه وعدم نقاوته أمام عظمة قداسة السيّد الّذي يقف أمامه. حينها يجد نعمة أعظم بإتمامه هذا السرّ ويستطيع أن يغذّي حاجات نفسه ويملأ ما ينقصه في فقره الروحيّ.
- على الكاهن أن يحفظ دائمًا في ذهنه أنّ ما يعمله هو لمجد الله، الممجّد في ثالوث، لإكرام قدّيسيه ولمغفرة خطاياه ثُمّ وخطايا كلّ المؤمنين الأرثوذكسيّين، لا الأحياء فقط وإنّما الّذين رقدوا أيضًا، الذين ذُكروا بأسمائهم في الخدمة.
- إنّ هذا العمل الإلهيّ، يطلب ثبات الكنيسة الشرقيّة المقدّسة الجامعة الرسوليّة، في كلّ ما أمر به الربّ وبحسب عادة وعرف الكنيسة الشرقيّة.