دخل الرجل إلى الكنيسة،
واستأذن الجلوس مع الكاهن لبضعة دقائق.
وجده الكاهن على غير عادته فرحًا مرحًا،
فاستغرب هذا وهو الذي كان قد تعوّد على
أن يراه دائمًا عبوسًا مهمومًا حزينًا، فسأله:
- أراك، يا بنيّ، مرتاحًا، والحمد لله، فما هو السبب يا ترى؟
- أشكر الله، يا أبانا، على عظيم نعمته ورعايته لي.
إنّي لا استحقّ محبّته الكبيرة، ولكنّه هو محبّ البشر بطبعه.
لقد أدركت أنّ المسيح، وحده، يبقى معي في وحدتي،
هو الذي يشاركني آلامي وهو الذي يبارك مصائبي،
وهو المعزّي الحقيقيّ أليس كذلك؟
- هذا أكيد. ولكن، لم تخبرني عن سبب ارتياحك.
- ابتسم الرجل، وقال: نعم. سأخبرك:
نمت، منذ عدّة أيّام، منقبض النفس جدًّا،
فأنت تعلم مشاكلي العائليّة وضيقتي الماليّة.
نمت وأنا أفكّر في مرارة هذه الحياة وعدم فائدة وجودي على هذه الأرض،
لا بل ورد إلى خاطري فكرة القدوم على التخلّص من حياتي
كحلّ وحيد لضيقاتي ومرارتي التي عدت لا أحتملها.
لا أدري إن كنت ما رأيته في أثناء نومي حلمًا،
وأنا لا أؤمن كثيرًا بالأحلام كما تعلم، أو إنّه رؤيا سماويّة.
على كلّ حال سأقصّ عليك ما رأيت:
كنت أصعد إلى قمّة جبلٍ عالٍ لألقي بنفسي من رأسها وأُنهي،
بذلك، حياتي. وإذا بي ألتقي بأعزّ صديق لي،
فأخذ يحاول أن يردعني عن إتمام قصدي،
مبيّنًا لي خطورة تهوّري هذا،
وما نتيجته السيّئة على حياتي الأبديّة.
بيد أنّي لم أسمع لكلماته، وتخلّصت من قبضة يده
وأسرعت نحو القمّة بأقصى سرعة يمكنني.
وما إن تقدّمت قليلاً، حتّى رأيت كاهنًا جليلاً راح، بدوره،
ينصحني بالعدول عن قراري، ولكنّي لم أصغ له،
بل أشحت بوجهي وأنا أصرخ "دعني وشأني".
تقدّمت أكثر وأنا أتفوّه بكلمات التذمّر والنقمة،
وإذا بملاك مهيب برّاق يقف إلى جانبي، وهو يقول:
"أنا ملاكك الحارس، ولن أدعك تهلك نفسك.
عد، فالربّ رحوم، وهو قادر أن ينتشلك من كلّ صعوباتك"،
غير أنّي أبعدت الملاك بحركة من يدي،
وأخذت أجري بكلّ قوّتي، وأنا أسمع صرخاتهم وتوسّلاتهم.
وما إن وصلت، حتّى ألقيت بنفسي من القمّة،
فارتطم جسدي بصخرة مسنّنة، وبدأت الدماء تتفجّر من بدني.
ولكنّي، ومع ارتطام جسدي، سمعت ارتطامًا آخر شديدًا قربي،
فتطلّعت لأرى ماذا يحدث، وإذا بي أرى مسيحي الحنون
يلقي بنفسه ورائي ليحميني من موت محقَّق.
لقد قام كلّ من صديقي والكاهن والملاك بما يستطيعوا أن يقوموا به،
ولكنّهم توقّفوا عند هذا الحدّ، وأمّا يسوعي، فقد ألقى بنفسه غير عابئ
بجروحاته التي نالته بسبب الارتطام.
نظر إليّ الربّ وقال لي بلهجة عذبة حنونة:
"أنا معك، لا تخف بعد الآن.
اصبر وستنال أجر صبرك واحتمالك. لا تنسَ أنا معك، فلا تخف".
استيقظت والدموع تجري من عينيّ،
وقلبي يخفق بقوّة غريبة، وفرح كبير وعزاء حلو يشملانني.
مسحت دموعي، ونهضت شاكرًا الربّ الذي شدّدني وملأني من الرجاء.
ولذك جئت اليوم لأخبرك بأنّي مع الربّ
لا أخاف بعد اليوم صعوبة ولا ضيقًا.
نعم، لا يوجد بعد اليوم لا يأس ولا مرارة،
بل رجاء ورجاء ورجاء، فربّنا كلّه رجاء.
- الحمد لله على كلّ شيء، يا بنيّ،
فهلمّ بنا الآن نرفع شكرًا لمن عزّاك وشدّدك.