"ماذا أَعملُ لأَرِثَ الحياةَ الأبديّة؟".
في صبيحة هذا الأحد المبارك، الأحد الأوّل في موسم صومِ الميلاد لهذا العام،
والذي نرجوه مقدِّسًا نفوسَنا وأجسادَنا، يلفت انتباهنا هذا السؤال الذي طرحه هذا الإنسان الغنيّ على يسوع.
نَجَمَ عن هذا السُّؤالِ حِوارٌ بين يسوع والإنسان الغنيّ، حوارٌ تَدَرَّجَ من معرفة الوصايا وحِفظِها،
إلى القِمّةِ المطلوبةِ لِيَرِثَ هذا الغنيُّ الحياةَ الأبدية، فقد قال له يسوع: "واحدة تُعْوِزُكَ بَعْدُ".
وهذه "الواحدة" هي "التخلّي" عن كُلِّ قِنْيَةٍ مِن أجل توزيعها على المساكين.
لا يَطلبُ يسوعُ مِن الناس غيرَ ما الْتَزَمَ هُوَ بِه. هو تخلّى عن كلّ مجده "آخذًا صورة عبدٍ" (في 2: 7)،
وسنعيّد لتجسّده هذا في عيد ميلاده القادم علينا بالخير والسلام، إن شاء الله. "أخلى (يسوع) نفسه" (في 2: 7)،
غادر مجدَه الإلهيّ وساكَنَ البشرَ بِتَواضُعٍ كبير.
منذ ولادته في مغارة بيت لحم، أظهر سُمُوَّ اتِّضاعِهِ وَعُمقَ محبّتِه للبشريّةِ جَمْعاء، عبرَ طاعتِه لأبيه السّماويّ.
وهذا، ليكون محقَّقًا الأثرُ البالغُ لكلامه الذي قاله مرّة: "لاَ يَقْدِرُ خَادِمٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ.
لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ." (لو 16: 13).
جسّد يسوعُ بِطاعته القصوى لأبيه السماويّ حتّى الموتِ، موتِ الصليب، النموذجَ الصالحَ لِلابنِ الّذي يريد أن يكون وارثًا الحياة الأبدية.
فمن جِهَةِ المال والغنى: "لَيْسَ لَهُ أَيْنَ يَسْنُدُ رَأْسَهُ" (مت 8: 20)، مع أنّه مالِكُ الجميع، ومَلِكُ السموات والأرض...
أمّا من جهة الحياة الأبديّة، فخِدمَتُهُ لله الآب، وطاعتُه الكاملة، عَبَّرَتا عن كَونِهِ نبعَ هذه الحياة والإلهَ الذي
"لِذلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ، لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ،
وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ" (في 2: 9 – 10).
"واحدةٌ تُعْوِزُكَ بَعد"، قالها يسوع لهذا الغنيّ، إنْ قَبِلَها وتَبَنّاها تَغَيَّرَتْ حياتُهُ مِن وارِثٍ لأموالٍ تُعدُّ ولا تُحصى،
إلى وارثٍ لحياةٍ أبديّة لا حدود لها، ليس فيها قيود أو شروط، لأنّه يكون فيها "الوارثَ"،
والوارثُ هُوَ الابن الذي يتصرّف بحرّيّة أبناء الله، الحرّيّة التي تتحرّك بالمحبّة. بين الله والمال، ماذا تختار أيّها الإنسان؟
بين الحياة الأبديّة والحياة الوقتيّة، ماذا تفضّل أيّها الإنسان؟ بين أن تستغني بالله أو تستغني عن الله، ماذا ترغب أيّها الإنسان؟
بين أن ترث ما يُنزَعُ منك وأن ترث ما لا يُنتَزَع منك، إلى ماذا تسعى أيّها الانسان؟
سؤال هذا الانسان الغني: "ماذا أَعملُ لأَرِثَ الحياةَ الأبديّة؟"،
سؤالٌ مطروح على ضمير كلٍّ منّا، وجوابه في ضمير كلٍّ منّا، جوابٌ يستلزم أن نطرح على أنفسنا السؤال الأهمّ في وجودنا:
"هل نرغب بأن نكونَ وارِثِينَ للحياة الأبديّة، أو بالأحرى أبناءً لله نجسّد ملكوته السماويَّ في هذه الأرض، كما جسّد ابنه يسوع محبّته في ميلاده المجيد؟".
مِنْ طَلَبِ يسوع في إنجيل اليوم: "بِعْ كلَّ شيءٍ لك ووزّعه على المساكين"، نعرف الجواب.
ليسَ علينا سوى أنْ نُحسِنَ الاختيار لنكون، كما يُوصينا بولس الرسول:
"أَولادًا ِللهِ بِلاَ عَيْبٍ فِي وَسَطِ جِيل مُعَوَّجٍ وَمُلْتَوٍ، تُضِيئُونَ بَيْنَهُمْ كَأَنْوَارٍ فِي الْعَالَمِ" (في 2: 15)،
آمين.