وعليه يلد الله الكائن دوماً كلمته -وهي كاملة- بلا بداية ولا نهاية،
ذلك كيلا يلد الله في زمن، وهو الذي طبيعته وكيانه يجلأّن كثيراً فوق الزمن.
أمّا الإنسان فهو، من الواضح، على اختلاف ذلك:
إنه يتمّ ولادته بالوضع والفساد والسيلان وكثرة النسل وبوشاح الجسد والتواجد في طبيعته للذكر والأنثى،
لأن الذكر بحاجة إلى مساعدة الأنثى. ولكن ليرحمنا من هو فوق الجميع الذي يسمو فوق كل عقل وإدراك.
في الآب والابن:
- إذاً تُعلِّمنا الكنيسة الجامعة الرسولية أن مع وجود الآب كان الابن الوحيد الجنس موجوداً منه
بلا زمن ولا سيلان ولا انفعال ممّا يفوق الإدراك، الأمر الذي يعلمه إله الجميع وحده.
فكما أنه مع وجود النار يكون النور الصادر منها، ولا تكون النار أولاً وبعد ذلك النور، بل يكونان معاً.
وكما أن النور الصادر من النار مولود منها دائماً ولا يفارقها البتة،
كذلك يولد الابن أيضاً من الآب دون أن يفارقه البتة، بل يكون فيه دائماً.
لكنّ النور المولود من النار بلا افتراق والباقي فيها دائماً، ليس له أقنوم خاص به م قِبَل النار،
لأنه صفةٌ للنار طبيعية. أما ابن الله الوحيد الجنس المولود من الآب بلا انفصال ولا افتراق،
والثابت فيه دائماً، له أقنومه الخاص من قِبَل الله.
لماذا يُسمّى كلمةً وبهاءً وصورةً، ولماذا يُسمّى الوحيد؟:
- وعليه يُسمى الابن كلمة وبهاء، لولادته من الآب بلا علاقة ولا انفعال ولا زمن ولا سيلان ولا افتراق.
وهو أيضاً صورةُ الأقنوم الأبوي، لأنه كامل وذو أقنوم ومساوٍ للآب في كل شيء، عدا اللاولادة.
وهو الوحيد الجنس، لأنه وُلد وحده من الآب وحده ولادةً وحيدة؛ فليس من ولادة أُخرى
تُساوي ولادة الابن من الله، وليس من ابن الله سواه. أمّا الروح القدس،
فينبثق من الآب لا بالولادة بل بالانبثاق. وطريقة الوجود الأخرى هذه لا تُدرك ولا تُعرف،
شأنها شأن ولادة الابن. لذلك كل ما للآب هو أيضاً للروح عد اللاولادة التي لا تشير إلى جوهر ورتبة مختلفتين،
بل إلى طريقة الوجود.
فإن آدم مثلاً هو غير مولود لأنه جبلة الله، وشيتا مولود لأنه ابن آدم،
وحواء منبثقة من ضلع آدم وهي غير مولودة. ولا يختلف واحدهم بالطبيعة عن الآخر-لأنهم بشر-
بل يختلفون في طريقة وجودهم.
الاختلاف بين كلمة αγένητος"أَيينِتُس" وكلمة αγέννητος "أَيينّتُس":
- واعلم أنّ كلمة αγένητος المكتوبة بنونٍ واحدة (v)، معناها "غير مخلوق" و "غير كائن"
وكلمة αγέννητος المكتوبة بنونٍ مزدوجة (vv)، معناها "غير مولود".
فبالمعنى الأول إذاً يختلف جوهر عن جوهر، لأن الجوهر غير المحلوق و غيرَ الكائن ليس كالجوهر المخلوق والكائن.
أما بالمعنى الثاني، فلا يختلف جوهر عن جوهر، لأنّ الفرد الأوّل من كل الحيوانات غير مولود، αγέννητος ،
لا غير مخلوق αγένητος، لأنّ الباري قد خلقها كلّها وأَوجدها بكلمته،
لكنها لم تولد، لأنّ واحدها لا يولَد إلاّ من آخر من الجنس نفسه سبقه في الوجود.
فبحسب المعنى الأول إذاً يَتساوى الأقانيم الثلاثة الإلهيون في اللاهوت الأقدس.
وهم متساوون وغير مخلوقين. أمَّا بحسب المعنى الثاني، فلا، لأنَّ الآب وحده غير مولود.
ووجوده ليس من أقنوم آخر غيره. والابن وحده مولود، لأنه وُلد من جوهر الآب المنزَّه عن البدء والزمن.
والروح القدس وحده منبثق من جوهر الآب-غير مولود بل منبثق (يو 15: 26).
فهكذا يعلّمنا الكتاب الإلهي. أمّا الكيفية في الولادة والانبثاق فتظلّ غير مدركة.
واعلم هذا أيضاً أنّ اسم الأبوّة والبنوّة والانبثاق لم ينتقل من عندنا إلى اللاهوت السعيد بل بالعكس،
فهو قد انتقل إلينا من هناك، على ما يقول الرسول الإلهي:
- "لهذا السبب أجثو على ركبتيّ لأبي ربّنا يسوع المسيح الذي منه تسمَّى كل أٌبوَّة في السماوات وعلى الأرض"
(أفسس 3: 14- 15).
كيف الآب أعظم من الابن وكيف الكلمة ليس آلة للآب:
- وإذا قلنا بأنَ الآب مبدأُ الابن وأعظم منه، فلسنا نعني أنه يفوق الابن زمن وطبيعة، لأنه "به أنشاء الدهور"
(عب 1: 2)،
ولا أنه يفوقه بشيء آخر سوى العلّة، أي أن الابن ولِد من الآب، لا الآب من الابن،
وأن الآب علة الابن بحسب الطبيعة، كما نحن نقول بأن النار ليست صادرة من النور،
بل بالأحرى النور من النار. إذاً عندما نسمع أن الآب مبدأ الابن وأنه أعظم منه، نفكر بالعلة.
وعلى نحو ما نقول بأن ليس جوهر النار سوى جوهر النور، بل على نحو ذلك
-كما يبدو واضحاً-أن ليس جوهر الآب سوى جوهر الابن، بل هما واحد وهما الشيء نفسه.
وكما نقول إن النار تظهر بالنور الصادر منها، ولسنا نحسب أن النور -الذي هو من النار
- آلة خادمة لها، بل أنه قوتها الطبيعية، كذلك إنه مهما يعمل الآب يعمله بابنه -ليس كما بعضوٍ للخدمة-،
بل بقوته الطبيعية الأقنومية. وكما نقول أن النار تضيء ونقول أيضاً إن النور يضيء، كذلك نقول:
"مهما يعمله الآب فهذا يعمله الابن" (يو5: 19).
لكن الفرق أن النور لا أقنوم له خاصاً متميزاً عن النار، وأن الابن أقنومٌ كاملٌ غير منفصل عن الأقنوم الأبوي،
كما أثبتنا ذلك فيما تقدم. فإنه -في الخليقة- لا يمكن إيجاد صورة توضح في ذاتها حالة الثالوث
إيضاحاً كاملاً دون اختلاف.
فكيف المخلوق والمركب والسائل والمتحول والمحدود وذو الشكل والفاسد،
كيف هذا يبيّن بصفاء الجوهر الإلهي السامي الجوهر، الغريب عن هذه الصفات كلّها؟!
إنه لواضح أن كل خليقة غارقة في الكثير من هذه الصفات وهي جميعها بموجب طبيعتها الخاضعة للفساد.
في الروح القدس - لا نعلم كيفية التمييز بين الولادة والانبثاق:
- وبالمثل، نؤمن أيضاً بالروح القدس الواحد، الرب المحيي، المنبثق من الآب
والمستريح في الابن والمسجود له والممجد مع الآب والابن،
على أنه مساوٍ لهما في الجوهر والأزلية، الروح الذي هو من الله،
المستقيم صاحب الأمر وينبوع الحكمة والحياة والتقديس،
- لأنه إلهٌ مع الآب والابن فعلاً واسماً - غير المخلوق، الممتلئ، المبدع، صاحب الاقتدار،
كامل الفعالية والقوة، لا حد لقوته، المتسلط المطلق على الخليقة كلها. يؤلَّه ولا يتألّه، يَملأ وليس ما يملأُهُ،
يُستَمَد منه ولا يَستَمِدْ، يُقدِس ولا يتَقدَس، يُلجأ إليه لتقبّلهِ استغاثات الجميع.
مساوٍ للآب والابن في كل شيء. منبثق من الآب وموهوب بالابن فتناله الخليقة كلّها خالقٌ بذاته،
يكوّن الكل ويقدسه ويعتني به، قيّوم بأقنومه الخاص، غير مفترق ولا منفصل عن الآب والابن.
له كل ما للآب والابن عدا اللاولادة والولادة، فإن الآب غير معلول وغير مولود
- لأنه ليس من أحد، بل له وجوده من ذاته، ولا شيء مما هو له كان من غيره،
بل بالأحرى هو لكليهما بالطبيعة المبدأُ وعلة وكيفية الوجود -.
أما الابن فهو من الآب بالولادة.
والروح القدس هو أيضاً من الآب، لكن باللاولادة بل بالانبثاق.
ونحن نعلم أن هناك فرقاً بين الولادة والانبثاق لكننا نجهل كيفيته.
وإننا نعلم أيضاً بأن ولادة الابن وانبثاق الروح القدس كانا معاً.
اختصاصات الأقانيم:
- إذاً كل ما كان للابن والروح، كان لهما من الآب، حتى الوجود نفسه.
ولو لم يكن الآب، لما كان الابن ولا كان الروح. ولو لم يكن للآب شيئاً، لما كان أيضاً شيءٌ للابن ولا للروح.
وبسبب الآب كان للابن والروح القدس كل ما لهما -أي بسبب أن للآب هذا كلّه- ما عدا اللاولادة والولادة والانبثاق.
فبهذه الاختصاصات الأقنومية وحدها تتميز أحد الأقانيم الثلاثة القدوسة عن الآخرين.
ويتميزون باللانقسام بالجوهر، بل ذلك بميزة الأقنوم الخاص.
لا تركيب في الثالوث:
- ونقول إن لكل من الثلاثة أقنومه الكامل، لئلا نوهم بأنه طبيعة واحدة مركبة من ثلاث غير كاملين،
ونقول أيضاً إن في الأقانيم الثلاثة الكاملين جوهراً بسيطاً واحداً فائق الكمال وقبل الكمال.
لأن كل مجموعة من غير كاملين تكون حتماً مركبة، ولا يمكن إيجاد مركب من ثلاثة أقانيم.
ولذلك فإننا لا نتكلم عن نوعهم إنه من أقانيم بل إنه في أقانيم.
وقد سميناها ناقصة تلك الأشياء التي لا تحتفظ بنوع الصنع المصنوع منها.
فالحجر والخشب والحديد، كل منها كامل بذاته في طبيعته الخاصة.
أما بالنظر إلى البيت المصنوع منها، فكل منها ناقص، لأن كلٌّ منها ليس في ذاته بيتاً.
كيف الثلاثة إله واحد:
- وعليه إننا نقول بأن الأقانيم كاملون لئلا نفكر بتركيب في الطبيعة الإلهية.
فالتركيب بدء التقسيم. ونقول أيضاً إن كلاًّ من الأقانيم الثلاثة هو في الآخر، لئلا نصير في كثرة وجمهرة من الآلهة.
لذلك نقر بعدم تركيب الأقانيم الثلاثة وبعدم اختلاطهم،
ولذلك أيضاً نعترف بتساوي الأقانيم في الجوهر وبأن كل واحد منهم هو في الآخر وبأنها هي هي
مشيئتهم وفعلهم وقوتهم وسلطتهم وحركتهم -إذا صحَّ التعبير، وبأنهم إله واحد غير منقسم.
فإن الله واحد حقاً، وهو الله وكلمته وروحه.
في التمييز بين الأقانيم الثلاثة
- والفرق بين النظر بالفعل والنظر بالنطق والتفكير:
- وعلى أن النظر بالفعل غير النظر بالنطق والفكر. وعليه يتضح لنا تمييز الأفراد بالفعل في جميع المخلوقات،
لأن بطرس يبدو منفصلاً بالفعل عن بولس. أما ما هو فيهما مشترك ومتجانس وواحد،
فلسنا نشاهده إلا بالنطق والتفكير.
فنفكر في عقلنا أن بطرس وبولس من طبيعة هي هي نفسها وأن لهما طبيعة مشتركة.
كائن ناطق ومائت، وكل منهما تُحيي جسده نفس ناطقة وعقلة.
أما الطبيعة المشتركة فتُشاهد بالمنطق، لأن الأفراد ليسوا بعضهم ببعض، وكل فرد -فيما يختص به-
نَفور من غيره، أي يبتعد بذاته في الكثير مما يميزه من غيره.
فهم أيضاً ينفصلون في المكان ويختلفون في الزمان وينقسمون في الرأي والقوة والشكل أي الهيئة والبنية
والطبع والحجم والسيرة وسائر الميزات الخاصة، -وأكثر الكل- في أنهم ليسوا بعضهم في بعض،
بل إن كيانهم منفصل انفصالاً تاماً.
ومن ثم يقال رجلان وثلاثة رجال ورجال كثيرون.
لذلك نقول بطبيعة إلهية واحدة وبأقانيم ثالوث لا ينقسم وبرجوع الابن والروح إلى مبدأ واحد:
- هذا هو الذي نراه في الخليقة كلها. أما الثالوث الأقدس الفائق الجوهر الذي يعم جلاله الكل وغير المدرك فهو بعكس ذلك.
فإن ما يرى هنالك بالفعل إنما هو الشركة الواحدة بسبب التساوي في الأزلية ووحدة الجوهر والفعل
والمشيئة اتفاق الرأي والسلطة والقوة ووحدة هوية الصلاح. وإني لست أقول بتشابه، بل بوحدة هوية،
ووحدة انطلاق الحركة. فالجوهر واحد والصلاح واحد والقوة واحدة والمشيئة واحدة والفعل واحد والسلطة واحدة،
بل هي واحدة وهي هي نفسها، لا ثلاثة أمثال بعضهم في بعض،
بل حركة واحدة وهي هي في الأقانيم الثلاثة. فلكل منهم، بالنسبة لغيره،
ليس أقل مما له بالنسبة لنفسه، أي أن الآب والابن والروح القدس واحد في كل شيء،
ما عدا اللاولادة والولادة والانبثاق. وهذا التمييز يكون بفعل التفكير، فنعرف الله واحداً،
ونعرف في وحدة خواصه الأبوة والبنوة والانبثاق. ونفهم الفرق على حسب العلة والمعلول وكمال كل أقنوم،
أي طريقة وجوده. فلسنا نستطيع القول بانفصال مكاني -كما هو عندنا- في اللاهوت غير المحدود،
لأن الأقانيم هم بعضهم في بعض، لا على طريقة الاختلاط، بل التواجد، على نحو قول الرب القائل:
"أنا في الآب... والآب فيَّ" (يو14: 11). ولسنا نقول بالاختلاف في الإرادة والرأي والفعل والقوة وأي شيء أخر،
الأمر الذي يحدث الانقسام الفعلي الذي فينا في كل شيء. لذلك لا نقول بآلهة ثلاث،
آب وابن وروح قدس، بل بالأحرى بإله واحد، الثالوث القدوس، مرجع الابن والروح فيه إلى علة واحدة بدون تركيب
ولا اختلاط -وذلك ضد هرطقة سابيلوس-، فإنهم متحدون،
كما قلنا، لا للاختلاط بل للتواجد بعضهم في بعضٍ ونفوذ أحدهم في الآخرين بدون امتزاج ولا تشويش،
ولا انفصل ولا انقسام -ذلك ضد هرطقة آريوس-.
وإذا وجب الاختصار نقول:
إنّ اللاهوت لا يمكن أن يُقسم إلى أقسام، وهو على نحو ما يصير في ثلاثة شموس متواجدة بعضهم في بعضٍ
وهي لا تنفصل، فيكون مزيج النور واحداً والإضاءة واحدة.
إذاً عندما ننظر إلى اللاهوت، على أنه العلّة الأولى، والرئاسة الواحدة، والواحد،
وحركة اللاهوت ومشيئته الواحدة -إذا صحّ القول-، وقوّة الجوهر وفعله وسيادته ذاتها،
فالذي يتصوّر في ذهننا هو الواحد. أمّا عندما ننظر إلى مَنْ فيهم اللاهوت و-بعبارة أدقَّ-
إلى مَن هم اللاهوت، لا سيمَا إلى الصادرَيْنِ من العلّة الأولى بلا زمن والمساويَين لها في المجد وعدم الانفصال
-وأعني الابن والروح- فالمسجود لهم ثلاثة : الآب آبٌ واحد هو لا مبدأ له -أي لا علّة له-
لأنه ليس من أحد. والابن ابنٌ واحد هو ليس بلا مبدإٍ -أي بلا علّة- وهو من الآب.
وإذا اعتبرتَ البدءَ انطلاقاً من الزمن، فالابن لا بدءَ له، لأنه صانع الأزمان وهو ليس تحت الزمن.
والروح القدس روح واحد صادر من الآب وذلك ليس بالولادة بل بالانبثاق،
لأن الآب لم ينفكّ أن يكون غير مولود -فإنه قد ولد الابن-
والابن لم ينفكَّ أن يكون مولوداً -لأنه وُلد من غير مولود-، فكيف إذاً؟
والروح القدس لا يستحيل إلى الآب وإلى الابن، فإذا صار الآب ابناً، فلا يكون آباً بالحقيقية
-لأن الآب واحد حقاً-.
وإذا صار الابن آباً، فلا يكون ابناً بالحقيقة، لأنَّ الابن واحد حقاً. والروح القدس واحد.
وأعلم أننا لا نقول بأنّ الآب من أحد، بل نقول أنه أبو ابنه، ولا نقول إن الابن علّة وآب،
بل نقول إنه من الآب وإنه ابن الآب. ونقول أيضاً إن الروح القدس من الآب ونسميه روح الآب.
ولا نقول إنّ الروح القدس من الابن، ونسمّيه روح الابن. يقول الرسول الإلهي:
"إن كان أحد ليس فيه روح المسيح فهو ليس منه" (رومة8: 9).
ونعترف أن الابن يُظهره ويمنحه لنا، فقد قال: "نفخَ في تلاميذه وقال لهم: خذوا الروح القدس"
(يوحنا20: 22).
فكما أنّ الشعاع والإشراق من الشمس -وهي ينبوع الشعاع والإشراق-
كذلك يمنح لنا إشراقه بواسطة الشعاع، فينيرنا به ويكون متعتنا.
ولسنا نقول بأن الابن ابن الروح ولا إنه من الروح.