أهل بيت الله
جوهر المسيحيّة أنّها عائلة، أو “أهل بيت الله” (أفسس 2: 19). وهذا، مفتوحًا على مدى البشريّة كلّها، أكّدته كتبنا بكشفها أنّ الربّ أتى،
“ليجمع أبناء الله المتفرّقين إلى واحد” (يوحنّا 11: 51 و52).
هذا يؤكّد أنّ العلاقة السليمة بالله أساسها الانتساب إلى شعبه. فالالتزام الكنسيّ، الذي يجمعنا إلى الـ”واحد”، يقوم على بركات الوعي أنّ المسيحيّة شركة حياة مع الكلّ،
أي مع كلّ عضو من أعضاء الكنيسة أيًّا يكن لونه، أو جنسه، أو عمره، أو مستواه الاجتماعيّ والثقافيّ. فكلّ عضو أساسٌ للحياة، أي لحياتي أنا، كما التنفّس.
ولا آتي بأمر جديد إن قلت إنّ هذا ما أراده الله من عمل روحه القدّوس في حياة الكنيسة، ولا سيّما في أسرارها المقدَّسة.
فكما نقول إنّنا ندخل شركة الجماعة في نوالنا المعموديّة، هكذا نقول إنّنا في اشتراكنا في الخدمة الإلهيّة نحيي هدف هذا الانتساب فينا.
فإنّنا، إن بسطنا تعليمنا عن الخدمة الإلهيّة (سرّ الشكر)، فالثابت أنّنا، في تناولنا جسد الربّ ودمه، نتناول ما ينمّي موهبتنا الشخصيّة التي أعطيناها،
لنعزّز انتسابنا إلى شعب الله. وهذا عينه ينسحب على غير سرّ من أسرارنا المقدّسة.
معنى ذلك أن ليس من سرّ كنسيّ هدفه فرديّ. حتّى إذا تكلّمنا على قداستنا الشخصيّة، التي هي هدف حياتنا في المسيح،
فنحن نتكلّم على انخراطنا الواعي في حياة جماعة تحمل إرث الله وخبرة أبراره في غير جيل،
وما يفترضه هذا الانخراط من اعتراف بالربّ في عالمٍ معظمُ أهله تشغلهم أنفسهم فقط. ليس، في تراثنا،
من قداسة لِمَن ينقطع عن حياة الإخوة ورفقة الإخوة وعمل الإخوة. حتّى النسّاك، الذي يحيون في البراري، يعرفون أنّ قداستهم مستحيلة بعيدًا من إخوتهم،
أي أعضاء الكنيسة والناس جميعًا. وهذا يثبته، ممّا يثبته، أنّهم لا يكفّون عن الدعاء من أجل سلام العالم وخلاصه.
الأسرار كلّها هدفها جماعيّ، بمعنى أنّها تنقذنا من تفرّقنا، لتضمّنا إلى الربّ الذي شاء أن يوحّد ذاته بشعبٍ أحبّه.
هذا أقوله فيما أرجو أن نعيه جميعنا، بعيدين وقريبين. فالبعيدون قد يزكّون ابتعادهم عن جماعة الله بمئة عذر وعذر.
مشكلة البعيدين أنّهم يكتفون بأنفسهم. وبعضهم قد تعيق تقدّمَهم نحو مسيرة خلاصهم، مثلاً، خطايا يقبلونها، وتاليًا أمورٌ، لا ترضي الله،
وصل إليهم أنّها موجودة في البيت! لمّا عبّرنا أنّ الله يريدنا من عائلته، لم نقصد أنّ أعضاء هذه العائلة حياتهم كلّهم مستقيمة.
هذا حاصل هنا وثمّة. وهذا رجاء هنا وثمّة. وهذا مدعاة للعمل دائمًا. فقد يضمّ البيت أشخاصًا دخلوه، ظاهريًّا،
من دون أن يفهموا حقًّا ما يتطلّبه هذا الدخول. وأنت لا تكون في الداخل حقًّا إن رأيت في البيت تصرّفًا سيّئًا، واكتفيت بوصفه مثلاً.
فأنت لا يمكنك أن تعرف الخطأ من نفسك. هذا من وحي روح الله. والروح لا يكشف خطأً لأحد، ليتغنّى بوصفه، بل ليستقبله أساسًا لخدمة صالحة.
فمن الوهْم أن نحسب أنّ البيت لا يحتاج أهله إلى خدمة. هذا ضدّ معنى المواهب التي وظيفتها العليا تكمن في العمل على نموّ بناء الله وانتشاره.
نحن نعتقد بأنّ الروح “يرشدنا إلى جميع الحقّ”. هذا ما قاله لنا الربّ نفسه (يوحنّا 16: 13).
ولكنّ هذا القول يمكن أن يعني، إلى كون الله يرشدنا إلى كلّ ما يرضيه، أن تُضرب العيوب حيث تظهر، ولا سيّما في الجماعة.
لا نستطيع، في تحليل موضوعيّ، أن ننزّه جميع الناس عن العيب، ولا أن نصنّم الذين نحيا معهم في شركة واحدة.
فالناس قد يخطئون، وقد يتغيّرون، وقد يبرّرون تغيّرهم بحجج ترضيهم. وليس من الله أن نتجنّب، تجنّبًا كلّيًّا،
مَن تظهر عيوبه واضحةً وضوح الشمس. فهناك، للأسف، مسيحيّون يتمنّعون عن الاندماج في حياة الجماعة بحجّة أن ليس أعضاؤها جميعًا أطهارًا.
ومِنَ الملتزمين مَن يخرجون على التزامهم متى لمسوا عيبًا في أحد الإخوة. وإن كان الربّ منعنا من أن نحكم على أحد حكمًا نهائيًّا،
فهو، بالضرورة، يمنعنا من أن نبتعد عن الإخوة، ولا سيّما الذين نرى أنّهم يحتاجون إلى معونة. فهذا الابتعاد نوع من إدانة أيضًا.
وذلك بأنّ الإدانة ليست، فقط، أن نفعل ما منعنا الله عن فعله (بأن نطلق الحكم الأخير على أيٍّ من الإخوة)، بل تجد ذاتها في تجنّبنا إيّاه أيضًا.
وإن تجنّبنا الإخوة، نكون قد علّينا أنفسنا فوق كلّ اعتبار. نكون، بإفصاحٍ أو من دون إفصاح، قد قلنا إنّنا الأفضل في عيني الله.
وهذا تشويه لتعليمنا عن أنّ الله أحبّنا، ويعني أنّه ما زال يحبّنا، فيما نحن خطأة وغير مستحقّين. كلّ كلمات الوحي، التي تدلّ على أخلاق الله،
إنّما كشفت، لنسلك بموجبها بشرًا كلُّ رجائهم أن يتمجّد الله في الأرض.
كلّ مَن يحلمون بيننا بمدّ الخلاص إلى العالم كلّه، على ندرتهم، لهم مدًى أوّل، وهو الجماعة التي انتسبوا إليها في معموديّتهم.
لا يعني هذا استقالةً عن تكليفنا أن يعرف اللهَ كلُّ الذين لم تصل إليهم كلمة الخلاص. فلهذا التكليف منطلَق. الجماعة،
التي نحيا في وسطها، على ما لها من حدود، هي “عالم” يتحدّانا الله بأن نجعله صورةً حيّةً عن أحلام ترضيه.
فإنّنا متوهِّمون إن حسبنا حسابًا آخر، أي إن كانت أحلامنا كلماتٍ ليست لها مدلول ظاهر في الموقع الذي نحيا فيه.
العالم، الذي يريدنا الله أن نخرج إليه، موجود أمامنا، لنحضّه على أن يترك الزيف، ويهدم الأوهام التي حاكتها له وسوسات إبليس.
المسيحيّة عائلة. كلّ عضو من أعضائها دعوته أن يرتبط بالواحد الذي هو ربّ البيت، ويرتبط بإخوته الذين وضعهم الله أمامه،
ليحبّهم، ويساعدهم، ويغتني من رفقتهم، ويحيا.